وفي الصورة الرائعة التي رسّمها القرآن من خلف ستار الوجود نجد كل جزء من العالم في السجود[1] وتسبیح الله تعالی[2]. في هذا المشهد يسجد كل من في السماوات والأرض وحتّى ظلالهم[3] ببالغ الذلّ والتواضع وبهذه الطريقة یظهرون خضوعهم لإرادة الله.
في هذا الكتاب ينقسم الساجدون، أو بمعنى آخر الخاضعون لله[4]، إلى فريقين[5]: المجموعة الاولی هي المخلوقات التي أُجبرت على السير في طريق محدّد ولم يكن أمامها خيار سوى الاستسلام. أما المجموعة الأخرى فهي مثل المؤمنين الذين اختاروا بوعي أن يسجدوا أمام مشيئة الله ويطيعوا أمره.
ويتحدث القرآن عن تقسیم آخر أيضاً[6]، وهو أن كل من في السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والأشجار والدوابّ وكثير من البشر، كلّهم من فئة الذين يسجدون لله. أما الفئة الثانیة فتتكوّن من الناس الذين سيتعرضون لعقوبة مؤکّدة بسبب رفضهم السجود.
كل هذه النقاط تدلّ علی أهمية الانحناء والخضوع أمام الله ودوره الأساسي كشرط للحصول على رحمته الخاصة[7]. وهذا مطلوب من الخالق الكريم الغنيّ الذي لا یستفید ولا یستمتع من خضوع و انحناء الآخرين[8]، ولا يدعو عباده إلى الصلاة والدعاء[9] الا باللطف والرحمة حتّى يبقوا الطريق مفتوحًا لنيل نعم الله، و لكي لا یسمحوا للكبرياء والغطرسة أن تسد هذا الطريق[10].
وإن کان مكان الخشوع والخضوع في القلب[11]، ولکن أيّ حقيقة تجد طريقها إليه تكشف آثارها في الجوارح؛ كما أن السلوك الخارجي يقوّي أو يضعّف الحالة الداخلية. ولهذا فإنّ القرآن يطلب مراراً من أتباعه أن يعبّروا عن مشاعرهم ومعتقداتهم تجاه الله بكل كيانهم في سلوکهم ووضعیّة جسمهم.
الركوع وهو الانحناء حتى تبلغ اليدين الركبتين، والسجود وهو أقصی حدّ من الانحناء بحیث تستقر فيها الجبهة على الأرض، من أركان الصلوة. والآيات العديدة من القرآن[12] تبيّن أنّ هذه الأعمال أیضاً كانت جزءاً من الصلاة في الشرائع السابقة[13]، ولا یزال ینبغي أن تبقى في عبادة أهل الحقّ والصلاح[14].
يتّفق أتباع المذاهب الإسلامية كافّة على عمومیّات هذين الركنين، ويرون وجوب التسبيح في الركوع، ثمّ القیام و بعد ذلک السجود وذکر التسبيح في حال السجود، ثمّ الجلوس ثم السجود مرّة أخرى. وكل هذه الأعمال مع قراءة القرآن قائماً تعتبر ركعة واحدة من الصلاة.
هناك أيضًا اتّفاق جماعي على أن أفضل الذكر الذي يقال أثناء الركوع هو «سبحان ربي العظیم[15]» وأثناء السجود هو «سبحان ربي الأعلی[16]». ومع ذلك، وفقًا لأمر القرآن بكثرة الذكر[17]، فمن الأفضل قراءة هذه العبارات ثلاث مرات على الأقل. وأيضاً لمراعاة توصيات هذا الكتاب بمصاحبة تسبیح السجود مع الحمد[18]، ينبغي أيضاً إضافة عبارة «وبحمده».
هذا الانحناء والاستقامة وإسناد الجبهة على الأرض، إذا تمّ تنفیذها بتركيز وتذكّر عظمة الله وعلوّه وکماله، فسوف تزدهر[19] حقیقة العبادة في نفوسنا ويزيد من قوّتنا ودافعنا للتوجه نحو الخير[20] والابتعاد عن العبادات الكاذبة[21] لدرجة نجد مع کلّ سجدة امکانیّة اتّخاذ خطوة جديدة في طريق الكمال[22].
التالی: التشهد و السلام
السابق: سورة الثناء
المكتبة الإسلامية: معرفة الإسلام
[1] . وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (النحل: ۴۹)
[2] . يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (الجمعة: ۱)
[3] . وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (الرعد: ۱۵)
[4] . أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (آل عمران: ۸۳)
[5] . وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (الرعد: ۱۵)
[6] . أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (الحج: ۱۸)
[7] . يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (آل عمران: ۷۴)
[8] . وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ (الأنعام: ۱۳۳)
[9] . ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً (الأعراف: ۵۵)
[10] . إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (النحل: ۲۳)
[11] . إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (الأنفال: ۲)
[12] . وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (الحج: ۲۶)
[13] . يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (آل عمران: ۴۳)
[14] . وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (البقرة: ۴۳)
[15] . فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (الواقعة: ۷۴)
[16] . سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (الأعلی: ۱)
[17] . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (الأحزاب: ۴۱)
[18] . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (الحجر: ۹۸)
[19] . فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (النجم: ۶۲)
[20] . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الحج: ۷۷)
[21] . وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (فصلت: ۳۷)
[22] . كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب (العلق: ۱۹)