إذا صلى أحد فهذا لا یعنی بالضرورة أنه شخص کریم وشریف، كما أن عدم اقامة الصلاة لا یدل بالتأکید على شرارة أحد وسوء عاقبته. فهناک کثیر من المصلين الذین ارتكبوا أبشع الجرائم، وكم من التارکین للصلاة الذين لم يؤذوا حتى نملة وعاشوا بشرافة. ولكن هل يمكن أن تكون هذه الحقيقة مبرراً لترک الصلاة؟
للإجابة على هذا السؤال ومعرفة سر إصرار القرآن على إقامة الصلاة[1]، لا بد أن ننظر إلى العالم من نفس المنظور الذي يعرضه لنا كتاب الله. وفي هذا المنظر فإن كل ما يُرى هو رحمة لا حدود لها وتشمل كل مكان[2]، وتسوق الكون نحو رحمة لا نهایة لها[3]. التفاصیل في هذا المشهد أیضاً ملیئة بالحب و الرحمة، ومن الرياح والمطر[4]، الی الليل والنهار[5]، وحتی الحياة والموت[6]، کلها تم تعیینها و ترتیبها علی دائرة الحب.
القرآن الکریم یشبّه إنعام الله وفضله بماء ینزل من السماء، فيتدفق كالفیضان، وتمتلأ كل حاویة بقدر سعتها المحدودة[7]. ولكن في هذه الأثناء، هناك وعاء مختلف وهو الإنسان، يمكن له أن ينمو في أبعاد غير محدودة بما یتناسب مع عدم محدودیة بحر الرحمة[8] ويكون خلیفته ومتلقّیاً حبّه الذي لا نهاية له[9]، و هذا النمو یصل الی درجة یسجد له أوسع الأوعية[10].
إن الوصف الذي يقدمه القرآن لهذا المشهد المجيد هو تسبیح کل شیئ في الکون[11] ودعمهم الانسان لمزيد من نموّه و کماله[12]. في هذا المنظر، فإن كل ظاهرة، تکون مثل وعاء مملوء بالرحمة، تدل[13] علی كمال خالقه الذي حدد اتجاه كل شيء[14] مقدّمًا ویصف انسجام کل كائنة مع هذا التدفق بأنها تصلّي[15]. ومع ذلك، يريد الله من الانسان أن یقیم صلاة مختلفة.
سر الفرق بين الإنسان والمخلوقات الأخرى يكمن في أن لديه إرادة حرة[16] يمكّنه أن یحمل عبئاً أثقل من تحمّل السماء والأرض والجبال[17]، والتي توفر له فرصة فريدة لاتخاذ قرارات مبنية على الحب. وذلك لأنه الوحید الذي يمكنه اختيار الرحمة والصدق في موقف يكون طريق الفساد والجريمة مفتوحًا أمامه[18]، ویمکنه الوصول الی الکمال و السعة التي لا نهایة لها من خلال الاستسلام للحقيقة[19].
والآن، إذا نظرنا إلى الانسانیة من هذا المنظور، نجدها تسبيحاً وتحمیداً أکثر قیمة بكثير من تسبيح وتقديس الكائنات الأخرى ويمكننا أن ندعي بجرأة أن الصلاة الحقيقية ليست سوى عيش حياة نقية وکریمة[20]. ولذلك يعتبر القرآن من يخضع بصدق[21] لحكم ضميره[22] أهل الخلاص واستحقاق دخول الجنة الآمنة[23] ورحمة الله الشاملة[24].
وهذا التعليم القرآني لیس ترخیصاً لترك الصلاة أبداً، بل يجعل الخاضین للحقیقة أكثر إصراراً على التمسك بالعبادة. وذلك لأنّهم إذا تعرّفوا على فوائد ذكر الله و دوره في الصحة النفسية[25] وخلق الضمانة في مجال حمایة الانسان و رعایته[26]، فإنهم سیقیمون الصلاة بكل اخلاص و اشتیاق[27]. وحتى لو غفلوا عنها، فلن يخدعوا أنفسهم بصلاة لا حقیقة و لا فائدة فیها[28]، ولن ينأوا بأنفسهم عن الإنسانية بالنفاق في الصلاة[29].
التالی: أعذار لترك الصلاة
السابق: الصلاة تکلیف أم توصية؟
المكتبة الإسلامية: معرفة الإسلام
[1] . وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا (طه: ۱۳۲)
[2] . وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (الأعراف: ۱۵۶)
[3] . رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (البقرة: ۲۸۵)
[4] . وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ (الروم: ۴۶)
[5] . وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (القصص: ۷۳)
[6] . فَانظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الروم: ۵۰)
[7] . أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا (الرعد: ۱۷)
[8] . رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (الکهف: ۱۰)
[9] . وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (البقرة: ۳۰)
[10] . وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ (البقرة: ۳۴)
[11] . تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (الإسراء: ۴۴)
[12] . وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (ابراهیم: ۳۳)
[13] . إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (البقرة: ۱۶۴)
[14] . رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ (طه: ۵۰)
[15] . أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (النور: ۴۱)
[16] . وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (الکهف: ۲۹)
[17] . إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب: ۷۲)
[18] . قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (البقرة: ۳۰)
[19] . إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ (آل عمران: ۱۹)
[20] . قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الأنعام: ۱۶۲)
[21] . قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (المائدة: ۱۱۹)
[22] . فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (الروم: ۳۰)
[23] . بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة: ۱۱۲)
[24] . وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (آل عمران: ۱۳۳)
[25] . أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد: ۲۸)
[26] . وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (العنکبوت: ۴۵)
[27] . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (المؤمنون: ۲)
[28] . إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (النساء: ۱۴۲)
[29] . فَوَيلٌ لِلمُصَلّينَ. الَّذينَ هُم عَن صَلاتِهِم ساهونَ. الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (الماعون: ۴ إلي ۶)