العلاقة مع الله والتقدم الروحي أمر باطني لا یمکن الوصول الیه الا بالاختيار ورغبة القلب[1] الذي لیس للإكراه فيه مجال وشأن[2]. نعم عندما یتعلق الأمر بحقوق الآخرين و لا یمکن الوقوف ضدّ انتهاک مصالحهم الا بتطبیق القانون، فلا بد من الاکراه و الالزام؛ لكن عند التعامل مع القلب فإن أي ضغط[3] سيأتي بنتائج عکسیة.
قد يبدو أنه يتعين علينا أحيانًا قبول الإكراه في الأمور الشخصية أیضاً کما قد نعتبر شيئاً الزامیاً لأنفسنا. على سبيل المثال، عندما نمرض، حتى لو تناولنا الدواء المرّ على مضض، فإنه ينفعنا ونحسّ بالتحسّن. فکذلک یمکن أن نقول في الأمور الدینیة و نستنتج أنه من الجيد أيضًا أن نتحمّل مرارة العبادة وثقل الإكراه لعلاج أمراضنا الباطنية والوصول إلى السمو الروحي.
إلا أن هذا التصور غير صحيح، ولا يجوز مقارنة الأمور الروحية التي تبتني على إرادة الإنسان[4] وأهوائه مع مفاهيم وآلیة هذا العالم المادي. لأن القرآن یقول لنا اذا کانت في نیتنا مثقال ذرة من الریاء و عدم الخلوص[5] أو دخل في قلبنا قلیلاً من الکراهیة و الانزعاج لما أراد الله تعالی منا[6]، ستدمر عبادتنا و لا یبقی أثر و فائدة فیها؛ کما اذا أقمنا الصلاة بمرارة و کراهة، فهذه الصلاة لا تنفعنا، بل إنها تضر روحانيتنا و تسبب الخسارة في هذا المجال.
القرآن الکریم بدلاً من الإصرار على ضرورة الصلاة أو تحديد عقوبة لتركها يتحدث دائماً عن فوائد ذكر الله[7] و یحاول من خلال التعبير عن آيات الله ونعماته خلق علاقة محبة[8] حتی یشمل فضله أولئك الذين يقبلون دعوته الكريمة و يسعون بكل اشتیاق إلى زيادة قدرتهم حتی یزید مبلغ استفادتهم من رحمة لا حد ولا نهایة لها.
وإذا تعرّفنا علی القليل من سعة رحمة الله[9]، سندرك أن كل ما ذكر عن العقوبات هی تحذیرات صدرت من رأفته ورحمته حتی یراعي و یحفظ بها من يحبه و يريد بذلک أن يحذرهم بوصف ملموس[10] من روعة الابتعاد عن الغرض الحقیقي للحیاة[11] حتى یراقبوا ولا یحرموا أنفسهم من هذه الوجهة المهمة.
فإن الوصية بالمحافظة على الصلاة[12] ليست مهمة وضعت بقوة قاهرة علی أکتاف العباد کأوامر الملوک والأقویاء التي تصدر من موضع السلطة. لأنّ الذي يرسل رسله لإزالة الثقل[13] عن أكتاف الانسان والتخفیف عنه[14] حتی یسهل طيرانه، لا يرضی بإزعاج أحد[15]. ولکنّه يعلم أن مثل هذا الهدف السامي لا يمكن الوصول إليه إلا بخطة برنامج دائمي[16] ولهذا أوصی بالثبات الالتزام على الصلاة[17].
ولفهم الفرق بين كون الصلاة تکلیفاً أو توصیة لا نحتاج أن نبحث في مصطلحات فقهیة مثل “الواجب” أو “المستحب”. وذلك لأنه لا يوجد عاقل يتردد أو يفشل في تنفيذ أمر اله لطيف رحیم[18]. النقطة الأساسية هي تجنب النظرة التي تقدم إلهًا مستبدًا ينتظر طاعته وتملقه، و تخلق حالة تؤدي الی اقامة الصلاة بکسل و ملل[19].
التالی: الصلاة من زاوية أخرى
السابق: أهمية الصلاة وفوائدها
المكتبة الإسلامية: معرفة الإسلام
[1] . الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد: ۲۸)
[2] . لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (البقرة: ۲۵۶)
[3] . قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (هود: ۲۸)
[4] . وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (الاسراء: ۱۹)
[5] . ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الانعام: ۸۸)
[6] . ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (محمد: ۲۸)
[7] . اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (العنکبوت: ۴۵)
[8] . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (المائدة: ۵۴)
[9] . وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (الأعراف: ۱۵۶)
[10] . كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ نَزّاعَةً لِلشَّوىٰ … (المعارج: ۱۵ و ۱۶)
[11] . مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (طه: ۱۰۰)
[12] . حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (البقرة: ۲۳۸)
[13] . وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ (الأعراف: ۱۵۷)
[14] . يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا (النساء: ۲۸)
[15] . يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (البقرة: ۱۸۵)
[16] . الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (المعارج: ۲۳)
[17] . وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (مریم: ۳۱)
[18] . وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (الأنعام: ۵۴)
[19] . وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (التوبة: ۵۴)